في خضم الحياة الحديثة، وجدنا أنفسنا محاطين بمقاطع قصيرة، كأنها شظايا من عوالم متباينة، ننتقل فيها بين الجدية والتفاهة، بين الترفيه والمجازر، وبين الفجور والدين، كأرواح تتأرجح بين النور والظلام. هذه المقاطع، التي تجذبنا بشدة سرعة إيقاعها، أصبحت أقرب إلى الإدمان، لكنها إدمان لا يغذي عقولنا، بل يدفعها إلى التشتت والتبلّد.
لو رأى عالم مثل ابن سينا، أو مفكر مثل الفارابي، حال هذا الجيل، لكانوا ذهلوا من هذا التسارع الذي يبدد طاقات الإنسان ويشتت اهتمامه؛ فالإنسان هنا ليس هو المتحكم، بل الآلة هي المسيطرة. كل نقرة تُشعل في الدماغ شرارة قصيرة، لكنها سرعان ما تخبو، حتى يبحث العقل عن مقطع آخر لإحياء ذلك الاندفاع اللحظي. إنها رحلة بحث عبثية عن الإثارة، لا تهدأ ولا تتوقف.
أصبحت المقاطع القصيرة، التي تعرض علينا مشاهد العنف إلى جانب الضحك، تخلق حالة من الازدواجية في الشعور؛ حيث أصبحنا نقف على عتبة التبلد العاطفي، فنحن لا نملك وقتًا كافيًا لاستيعاب مشهد القسوة حتى ننتقل إلى مقطع كوميدي، ولا نكاد ندرك صدمة الفجور حتى نجد أنفسنا أمام دعاء ديني أو حكمة ملهمة. هذا الانتقال السريع لا يدع للدماغ فرصة لمعالجة المعلومات أو إدراكها بالكامل، بل يجعل العقل يرتبك في محاولة لمواكبة التسارع، ويتبلد في تفاعله العاطفي مع كل ما يشاهد.
يقول مصطفى محمود إن "الحياة بحاجة إلى تذوق بطيء، لأنها ليست مجرد حزمة من اللحظات"، فما بالنا نعيش وكأننا نأكل عقلنا لقيماتٍ سريعة، بلا ذوق، وبلا تأمل؟ أصبحنا نقاوم مشاعرنا، بل ونفقد تدريجيا قدرتنا على التأثر العميق، لنقف في مواجهة أصدقائنا وأحبائنا، وعيوننا مرهقة، وقلبنا بارد، وعقولنا لا تستوعب إلا صورة من صورة، وصوتاً من صوت.
في وسط هذا التسارع، تُفقد النفس أهدافها، وتغيب بوصلة السعي الحقيقي؛ فالأشخاص الذين يقضون ساعات يتنقلون بين مقاطع التسلية والعنف والأمور التافهة، يجدون أنفسهم مع نهاية اليوم وقد استهلكوا وقتهم بلا هدف. هذا الاستهلاك غير الواعي يتسرب إلى عقلهم الباطن، فيجدون أنفسهم في فراغ داخلي، بلا طموح، ولا فكرة تتجلى في أفقهم.
التشتت يولد شعورًا بأن لا شيء يستحق التفكير العميق أو الجهد، فكل شيء أصبح سطحيًا؛ حتى العلاقات والصداقات باتت تمر كمرور المقاطع على الشاشات، لا نتوقف عندها ولا نتأمل فيها، بل نستبدلها سريعاً بغيرها.
أمام هذه العاصفة الرقمية، لا بد أن نسترجع سلطتنا على عقولنا وأرواحنا، وأن ندرك بأن السعادة الحقيقية ليست في التشتت، بل في التركيز، وأن التأثير الإيجابي في حياتنا لا يأتي من مشاهدة لحظات عابرة، بل من سعي عميق وجهد متواصل نحو تحقيق الذات.
علينا أن نحول اهتمامنا إلى ما يبني عقولنا ويغذي أرواحنا، ونقلل من هذا التدفق المشتت، بل ونستثمر وقتنا في التأمل، والتواصل الحقيقي، وقراءة الأفكار العميقة. فالإنسان ليس مجرد مستهلك عابر للصور، بل هو كائن خُلق للتأمل والسعي نحو المعرفة والحكمة.
في النهاية، ندرك أن لا مفر من هذا العالم الرقمي المتسارع، ولكن هناك دائماً سبيل إلى استعادة التوازن والابتعاد عن فخ التبلد والاضطراب. كما قال مصطفى محمود: "نحن لا نتغير بحركة الزمان فقط، بل نحتاج أن نتحرك نحن داخل أنفسنا"، فما أجمل أن نتحرر من أسر المقاطع، ونسير نحو عمق الحياة الحقيقية.